مختصر عن حياة الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السّلام)
1ـ ولادتـه (عليه السلام) : ولد الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السّلام) بالمدينة المنورة في الثالث من شهر صفر ـ وقيل أوّل شهر رجب ـ سنة سبع وخمسين للهجرة ، وكان (عليه السّلام) حاضراً في وقعة الطفّ وعمره أربع سنين . اُمّه الماجدة فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ، وقيل لها اُمّ عبد الله ؛ فأصبح (عليه السلام) ابن الخيرتين ، وعلويّاً بين علويّين . ويكفي في فضلها ما رواه الراوندي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (( كانت اُمّي قاعدة عند جدارٍ فتصدع الجدار ، وسمعنا هدّة شديدة فقالت بيدها : لا وحقِّ المصطفى ما أذن الله لك في السقوط ، فبقى معلّقاً حتّى جازته ، فتصدّق عنها أبي (عليه السلام) بمئة دينار )) .
وذكرها الإمام الصادق (عليه السّلام) يوماً ، فقال: (( كانت صدّيقةً لم يدرك في آل الحسن (عليه السّلام) امرأة مثلها )) .
اسمه الشريف محمّد ، وكنيته أبو جعفر ، وألقابه الشريفة : الباقر والشاكر والهادي ، وأشهرها الباقر . وقد لقّبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بذلك ، كما روى جابر بن عبدالله الأنصاري عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال لجابر : (( يوشك أن تبقى حتّى تلقى ولداً لي من الحسين (عليه السلام) يُقال له: محمّد ، يبقر عِلم الدين بقراً ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام )) .
وروى الشيخ (رحمه الله) عن عمرو بن شمر قال : سألتُ جابر بن يزيد الجعفي فقلتُ له : ولم سُمّي الباقر باقراً ؟ قال : لأنّه بقر العلم بقراً ، أي شقّه شقاً وأظهره إظهاراً ، ولقد حدّثني جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( يا جابر ، إنّك ستبقى حتّى تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف في التوراة باقر ، فإذا لقيته فاقراه منّي السّلام )) . فلقيه جابر بن عبدالله الأنصاري في بعض سكك المدينة ، فقال له : ياغلام مَن أنت ؟ قال : (( أنا محمّد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب )) قال له جابر : يا بنيّ أقبل ، فأقبل ، ثم قال : أدبر ، فأدبر ، فقال شمائل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وربّ الكعبة ، ثم قال : يا بني ، رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقرئك السلام . فقال : (( على رسول الله السّلام ما دامت السماوات والأرض ، وعليك يا جابر بما بلّغت السلام )) . فقال له جابر : يا باقر يا باقر ، أنت الباقر حقّاً ، أنت الذي تبقر العلم بقراً .
ثم كان جابر يأتيه فيجلس بين يديه فيعلّمه ، فربّما غلط جابر فيما يحدّث به عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيرد عليه ويذكّره ، فيقبل ذلك فيه ويرجع إلى قوله . وكان يقول : يا باقر يا باقر يا باقر ، أشهد بالله إنّك قد اُوتيت الحكم صبياً .
2ـ فضائله ومناقبه (عليه السلام) : لو تأمّلنا في مكارم أخلاقه وفضائله ومناقبه (عليه السّلام) ، لعرفنا حقيقة مقال الصادق الأمين والرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله) الذي قال فيه : (( إذا فارق الحسين الدنيا فالقائم بالأمر بعده علي ابنه ، وهو الحجّة والإمام ، وسيخرج الله من صلب عليٍّ ابناً اسمه اسمي ، وعِلمه علمي ، وحكمه حكمي ، وهو أشبه الناس إليّ ، وهو الإمام والحجّة بعد أبيه ))(1).
وروى الشيخ المفيد وغيره عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : (( إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول : ما كنتُ أرى مثل عليّ بن الحسين (عليهما السلام) ، يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين (عليهما السلام) حتّى رأيت ابنه محمّد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني ، فقال له أصحابه : بأيّ شيءٍ وعظك ؟ قال : خرجتُ إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة ، فلقيت محمّد بن علي (عليهما السلام) وكان رجلاً بديناً وهو متكئ على غلامين له أسودين ، أو موليين له ، فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه السّاعة على هذه الحال في طلب الدنيا ! لأعظنّه ، فدنوت منه فسلّمتُ عليه فسلّم عليّ بنهرٍ ، وقد تصبّب عرقاً .
فقلت : أصلحك الله ، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال !
قال : فخلّى عن الغلامين من يده ، ثم تساند وقال : لو جاءني ـ والله ـ الموتُ وأنا في هذه الحال ، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله ، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس ، وإنّما كنت أخاف لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله . فقلت : يرحمك الله ، أردت أن أعظك فوعظتني ))(2).
وقال له نصراني : أنت بقر ؟ قال : (( لا أنا باقر )) . قال: أنت ابن الطبّاخة ؟ قال : (( ذاك حرفتها )) . قال : أنت ابن السوداء الزنجيّة البذيّة ؟ قال: (( إن كنت صدقت غفر الله لها ، وإن كنت كذبت غفر الله لك )) . قال : فأسلم النصراني(3).
وتجدر الإشارة الى أنّ هذه الصفات التي تكلم بها النصراني لا تمتّ الى اُمّ الامام الباقر (عليه السّلام) بصلة ؛ حيث إنّها ابنة الامام الحسن المجتبى (عليه السّلام) كما أشرنا ، ولم تكن زنجية أو أمة ، ولكن الامام بخلقه الرفيع لم يرد الإنكارعلى النصراني بطريقة نفي تلك الصفات ـ لو كانت حقّاً ـ عن اُمّه ، أو أن هذه الصفات هي لاحدى جواري أبيه السجاد (عليه السّلام) ، بل أوضح له بأنّها إنْ كانت كما تدّعي فهذا جوابي لك .
3 ـ معاجزه (عليه السّلام) :
كانت للامام الباقر (عليه السّلام) كرامات ومعاجز كما لآبائه (عليهم السّلام) من قبل ، حيث حيّرت العقول وأذهلت الألباب وارجعت الكثير الى القول بامامته (عليه السّلام) . نكتفي بذكر بعضها :
روى القطب الراوندي بسنده عن أبي بصير قال : قلت لأبي جعفر (عليه السّلام) : أنا مولاك ومن شيعتك ، ضعيف ضرير ، فاضمن لي الجنّة . قال : (( أو لا اُعطيك علامة الأئمة أو غيرهم ؟ )) . قلت : وما عليك أن تجمعهما لي ؟ قال: (( وتحبّ ذلك ؟ )) . قلت : وكيف لا اُحب . فما زاد أن مسح على بصري فأبصرتُ جميع الائمة عنده ، ثم ما في السقيفة التي كان فيها جالساً . ثم قال : (( يا أبا محمد ، مدّ بصرك فانظر ماذا ترى بعينيك ؟ )) . قال : فوالله ما أبصرت إلاّ كلباً أو خنزيراً أو قِرداً . قلت : ما هذا الخلق الممسوخ ؟ قال : (( هذا الذي تراه هو السواد الأعظم ، ولو كشف الغطاء للناس ما نظر الشيعة إلى مَن خالفهم إلاّ في هذه الصورة )) . ثم قال : (( يا أبا محمّد ، إن أحببت تركتك على حالك هذا ، وحسابك على الله ، وإن أحببت ضمنت لك على الله الجنّة ورددتُك إلى حالك الأول ؟ )) . قلت : لا حاجة لي في النظر إلى هذا الخلق المنكوس ، ردّني الى حالتي فما للجنّة عوض . فمسح يده على عيني فرجعتُ كما كنتُ(4).
وفي مدينة المعاجز للسيّد المقدس هاشم البحراني (رحمه الله) ، عن جابر بن يزيد الجعفي قال : خرجت مع أبي جعفر (عليه السّلام) وهو يريد الحيرة ، فلمّا أشرفنا على كربلاء قال لي : (( يا جابر هذه روضةٌ من رياض الجنة لنا ولشيعتنا ، وحفرة من حفر جهنم لأعدائنا )) . ثم قضى ما أرادوا والتفت إليّ ، وقال : (( يا جابر )) ، قلتُ : لبّيك . قال لي : (( تأكل شيئاً ؟ )) ، قلتُ: نعم . فأدخل يده بين الحجارة ، فأخرج لي تفاحة لم أشم قط رائحة مثلها ، لا تشبه فاكهة الدنيا ، فعلمت أنّها من الجنّة فأكلتها ، فعصمتني عن الطعام أربعين يوماً ، لم آكل ولم اُحدث(5).
4ـ شهادته (عليه السلام) :
كانت حياته (عليه السّلام) مملوءة بالعلم والمعرفة ، والفضائل والمعاجز ، والكرامات الباهرة والآيات الظاهرة ، وبما أنّ هذا لا يتماشى مع سياسة الظالمين وحسد الحاسدين أخذوا يتحيّنون له الفرص لقتله والقضاء عليه .
فقد روى السيد ابن طاووس (رحمه الله) بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، وكان قد حجّ في تلك السنة مع أبيه الامام الباقر (عليهما السلام) ، فقال الامام الصادق (عليه السلام) : (( الحمد لله الذي بعث محمّداً بالحقِّ نبياً وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله وخلفاؤه على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتّبعنا ، والشقي مَن عادانا وخالفنا )) ثم قال : (( فأخبر مسلمة أخاه ( هشام ) بما سمع فلم يعرض لنا حتّى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بأشخاص أبي وإشخاصي ، فاشخصنا ، فلمّا وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثاً ثم أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا ، وإذا قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطان متسلّحان . . . ))(6) . فأخذ يتحيّن للإمام (عليه السلام) الفرصة المواتية لقتله والتخلص منه ، حسداً وحقداً ؛ لأنه من تلك الشجرة الطاهرة التي أصلُها ثابت وفرعها في السماء تؤتي اُكلها كل حين ، وهشام وأمثاله من الشجرة الملعونة في القرآن .
وقد حاججه الإمام (عليه السلام) وناظره وكشف له حقائق كثيرة ، ومن هذا وغيره تولّدت عند هذا الظالم الكافر فكرة قتل الإمام (عليه السّلام) والقضاء عليه ، وفي شهر ذي الحجّة الحرام سنة 114 هـ ق دسّ الظالم هشام بن عبد الملك إليه السمّ في طعامه ، وقيل في شرابه ، وقيل في سرج دابته كما يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، فوقع من ذلك السمِّ في فراشه ، فتورّم الجسد ثم عاش بعد ذلك ثلاثة أيام ، فلما كانت ليلة السابع من الشهر نفسه ، وهي ليلة وفاته ، جعل يناجي ربّه وأمر بأكفانٍ له ، وكان فيه ثوب أحرم فيه ، قال : (( اجعلوه في أكفاني )) .
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : (( ناداني أبي بعد فراغه من مناجاته ، وقال : يا بنيّ ، إنّ هذه الليلة التي أُقبض فيها )) . ثم أوصى ولده الصادق (عليه السلام) بوصايا ، وسلّم إليه مواريث الأئمة (عليهم السّلام) وأسرارهم . وقضى نحبه شهيداً مظلوماً مسموماً ، ودفن في البقيع بجوار أبيه زين العابدين (عليهما السّلام) . فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الأثر / 164 .
(2) مناقب آل أبي طالب 3 / 332 .
(3) بحار الأنوار 46 / 289 .
(4) مختصر بصائر الدرجات / 112 . والخرائج والجرائح 2 / 822 .
(5) مدينة المعاجز 5 / 12 .
(6) الأمان من أخطار الأسفار / 66 .