فقد تواترت الروايات عن العلماء وأرباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير قال: قدمت الكوفة في المحرم سنة إحدى وستين عند منصرف علي بن الحسين عليهما السلام من كربلاء، ومعهم الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلما أقبل بهم على الجمال بغير وطاء، وجعلن نساء الكوفة يبكين وينشدن، فسمعت علي بن الحسين عليهما السلام يقول بصوت ضئيل: -وقد نهكته العلة، وفي عنقه الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه – إن هؤلاء النسوة يبكين، فمن قتلنا؟.
قال: ورأيت زينب بنت علي عليه السلام ولم أر خفرة أنطق منها، كأّنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين عليــه السلام، قال: وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس وسكنت الأصوات، قالت: الحمد للّه، والصلاة على محمدٍ وآله الطيبين الأخيار، أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختر والغدر، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف ، والكذب والشنف، وملق الإماء، وغمر الأعداء؟ أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدين، أتبكون وتنتحبون؟.
إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم ومدره سنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وبتت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة. ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم ؟.ولقد جئتم بها صلعاء عنفاء سوداء فقماء، خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض، أو ملاء السماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً! ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربكم لبا المرصاد.
قال الراوي: فو الله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواهم، ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته بالدموع، وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير النسل، لا يخزى ولا يبزى.
أقول: وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها، وأخذته الدهشة من براعتها وشجاعتها الأدبية، حتى أنه لم يتمكن أن يشبهها إلا بأبيها سيد البلغاء والفصحاء، فقال: كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين.
وهذه الخطبة رواها كل من كتب في وقعة الطف أو في أحوال الحسين (عليه السلام) ورواها الجاحظ في كتابه البيان والتبيين عن خزيمة الأسدي قال: ورأيت نساء الكوفة يومئذ قياماً يندبن متهتكات الجيوب. ورواها أيضاً أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في بلاغات النساء، وأبو المؤيد الموفق بن أحمد الخوارزمي في الجزء الثاني من كتابه مقتل الحسين عليه السلام، والطوسي وشيخ الطائفة في أماليه، وغيرهم من أكابر العلماء.
ومن بلاغتها وشجاعتها الأدبية: ما ظهر منها عليها السلام في مجلس بن زياد. قال السيد ابن طاووس وغيره ممن كتب في مقتل الحسين عليه السلام: إنّ ابن زياد جلس في القصر وأذن إذناً عاماً، وجيء برأس الحسين عليه السلام فوضع بين يديه وأدخلت عليه نساء الحسين وصبيانه، وجاءت زينب ابنة علي عليه السلام وجلست متنكرة، فسأل ابن زياد من هذه المتنكرة؟ فقيل له: هذه زينب ابنة علي، فاقبل عليها فقال: الحمد لله الذي فضحكم واكذب أحدوثتكم.
فقالت عليها السلام: إنما يفتضح الفاجر ويكذب الفاسق، وهو غيرنا.
فقال: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟
فقالت: ما رأيت إلا خيراً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا بن مرجانة.
فغضب اللعين وهم أن يضربها، فقال له عمرو بن حريث: إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها.
فقال لها ابن زياد لعنه الله: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك.
فقالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاؤك فلقد اشتفيت.
فقال لعنه الله: هذه سجاعة، ولعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً.
فقالت: يا بن زياد ما للمرأة والسجاعة، وإن لي عن السجاعة لشغلاً.