عبادتها و انقطاعها إلى الله تعالى
العبادة من العبودية وهي: غاية الخضوع والتذلل، ولذلك كانت لله تعالى ولا تحسن لغيره، لأنه جلّ وعلا ولي كل نعمة، وغاية كل رغبة، وأكثر الناس عبادةً هو أعرفهم بالله عزّ وجلّ، كالأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يصلّي الليل كله، ولقد قام صلى الله عليه وآله وسلّم عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورمت قدماه واصفرّ وجهه، فأنزل الله عليه:«طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» فقال صلى الله عليه وآله وسلّم: أوَ لا أكون عبداً شكوراً. وكان أمير المؤمنين عليه السلام يصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة، ولم يترك النافلة حتى في الحروب، كما روي عنه ذلك في صلواته ليلة الهرير بصفّين.
وكذلك كانت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء صلوات الله عليها تصلّي عامة الليل، فإذا اتضح عمود الصبح أخذت تدعو للمؤمنين والمؤمنات. وكان الأئمة من ولدها صلوات الله عليها يُضرب بهم المثل في العبادة. أما زينب صلوات الله عليها فلقد كانت في عبادتها ثانية أمها الزهراء عليها السلام، وكانت تقضي عامّة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن. قال بعض ذوي الفضل: إنّها صلوات الله عليها ما تركت تهجّدها لله تعالى طول دهرها، حتّى ليلة الحادي عشر من المحرم.قال: وروي عن زين العابدين عليه السلام أنّه قال: رأيتها تلك الليلة تصلّي من جلوس.
وعن الفاضل القائيني البيرجندي، عن بعض المقاتل المعتبرة، عن مولانا السجّاد عليه السلام أنه قال: إنّ عمتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت نوافلها الليلية.عن الفاضل المذكور: إنّ الحسين عليه السلام لما ودع أخته زينب عليها السلام وداعه الأخير قال لها: يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل، وهذا الخبر رواه هذا الفاضل عن بعض المقاتل المعتبرة أيضاً.وفي مثير الأحزان للعلامة الشيخ شريف الجواهري قدس سرّه: قالت فاطمة بنت الحسين عليه السلام: وأمّا عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة - العاشرة من المحرم-في محرابها تستغيث إلى ربها، فما هدأت لنا عين، ولا سكنت لنا رنّة.
وروى بعض المتتبعين عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: إنّ عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس من شدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال، لأنها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الأطفال، لأنّ القوم كانوا يدفعون لكلّ واحد منّا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة.فإذا تأمّل المتأمّل إلى ما كانت عليه هذه الطاهرة من العبادة لله تعالى والانقطاع إليه لم يشك في عصمتها صلوات الله عليها، وأنّها كانت من القانتات اللواتي وقّفن حركاتهنّ وسكناتهنّ وأنفاسهنّ للباري تعالى، وبذلك حصلن على المنازل الرفيعة والدرجات العالية، التّي حكت برفعتها منازل المرسلين ودرجات الأوصياء عليهم الصلاة والسلام.
علمها وفضلها (عليها السلام) ومعرفتها بالله تعالى
العلم من أفضل السجايا الإنسانية، واشرف الصفات البشرية، به أكمل الله أنبياءه المرسلين، ورفع درجات عباده المخلصين، قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وقرن أهل العلم بنفسه وبملائكته في آية أخرى، فقال جل شأنه: (شهد الله أنه لا آله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط)، وقال تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ). وإنما صار العلم بهذه المثابة لأنه يوصل صاحبه إلى معرفة الحقائق، ويكون سبباً لتوفيقه في نيل رضاء الخالق، ولذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجلين أحدهما عامل والآخر عابد، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم رجلاً، وكان صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام يحثون الأمة على طلب العلم، وكانوا يغذون أطفالهم العلم كما يغذونهم اللبن.أما زينب المتربية في مدينة العلم النبوي المعتكفة بعده بابها العلوي المتغذية بلبانه من أمها الصديقة الطاهرة سلام الله عليها، وقد طوت عمراً من الدهر مع الإمامين السبطين يزقانها العلم زقاً، فهي من عياب علم آل محمد عليهم السلام وعلب فضائلهم التي اعترف بها عدوهم الألد يزيد الطاغية بقوله في الإمام السجاد عليه السلام: إنه من أهل بيت زقوا العلم زقاً.
وقد نص لها بهذه الكلمة ابن أخيها علي بن الحسين (عليهما السلام):أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة، يريد: أن مادة علمها من منبع ما منح به رجالات بيتها الرفيع أفيض عليها إلهاماً، لا بتخرج على أستاذ وأخذاً عن مشيخة، وإن كان الحصول على تلك القوة الربانية بسبب تهذ يبات جدها وأبيها وأمها وأخويها، أو لمحض انتمائها إليهم واتحادها معهم في الطينة الماسة لذاتها القدسية، فأزيحت عنها بذلك الموانع المادية، وبقي مقتضى اللطف الفياض وحده، وإذ كان لا يتطرقه البخل بتمام معانيه عادت العلة لإفاضة العلم كله عليها بقدر استعدادها تامة، فأفيض عليها بأجمعه، إلا ما اختص به أئمة الدين عليهم السلام من العلم المخصوص بمقامهم الأسمى. على أن هنالك مرتبة سامية لا ينالها إلا ذو حظ عظيم، وهي الرتبة الحاصلة من الرياضات الشرعية والعبادات الجامعة لشرائط الحقيقة، لا محض الظاهر الموفي لمقام الصحة والإجزاء، فإن لها من الآثار الكشفية مالا نهاية لأمدها، وفي الحديث: من أخلص لله تعالى أربعين صباحاً انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
ولا شك أن زينب الطاهرة قد أخلصت لله كل عمرها، فماذا تحسب أن يكون المتفجر من قلبها على لسانها من ينابيع الحكمة. وما أحلى كلمة قالها علي جلال في كتابه الحسين: من كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معلماً ومن كان أبوه علياً ابن أبي طالب عليه السلام، وأمه فاطمة الزهراء، ناشئاً في أصحاب جده وأصدقاء أبيه سادات الأمة وقدوة الأئمة، فلا شك أنه كان يغر العلم غراً كما قال ابن عمر.
وفي كتاب بلاغات النساء لأبي الفضل أحمد ابن أبي طاهر ابن طيفور قال: حدثني أحمد بن جعفر بن سليمان الهاشمي قال: كانت زينب بنت علي عليه السلام تقول: من أراد أن لا يكون الخلق شفعائه إلى الله فليحمده، ألم تسمع إلى قوله: سمع الله من الحمد، فخف الله لقدرته عليك واستحي منه لقربه منك.
وعن الصدوق محمد ابن باباويه طاب ثراه: كانت زينب عليها السلام لها نيابة خاصة عن الحسين عليه السلام، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى برأ زين العابدين عليه السلام من مرضه.
وقال الطبرسي: إن زينب عليها السلام روت أخباراً كثيرة عن أمها الزهراء عليها السلام.
وعن عماد المحدثين: إن زينب الكبرى كانت تروي عن أمها وأبيها وأخويها، وعن أم سلمة وأم هاني وغيرهما من النساء، ومنا روى عنها ابن عباس وعلي بن الحسين وعبد الله بن جعفر وفاطمة بنت الحسين الصغرى وغيرهم.
وقال أبو الفرج: زينب العقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة (صلى الله عليها) في فدك، فقال: حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي عليه السلام، وتفسير العقيلة في النساء السيدة، كعقال في الرجال يقال السيد.
وروى مرسلاً: أنها في طفولتها كانت جالسة في حجر أبيها- وهو عليه السلام يلاطفها بالكلام- فقال لها: يا بنيتي قولي: واحد، فقالت: واحد، فقال لها: قولي اثنين، فسكتت، فقال لها: تكلمي يا قرة عيني، فقالت عليها السلام: يا أبتاه ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد، فضمها صلوات الله عليه إلى صدره وقبلها بين عينيها، انتهى.
وأن زينب عليها السلام قالت لأبيها: أتحبنا يا أبتاه؟ فقال عليه السلام: وكيف لا أحبكم وأنتم ثمرة فؤادي، فقالت عليها السلام: يا أبتاه إن الحب لله تعالى والشفقة لنا. وهذا الكلام عنها عليها السلام روي متوتراً، وإذا تأمله المتأمل رأى فيه علماً جماً، فإذا عرف صدوره من طفلة كزينب عليها السلام يوم ذاك بانت له منزلتها في العلم والمعرفة.
ويظهر من الفاضل الدربندي وغيره: أنها كانت تعلم علم المنايا والبلايا، كجملة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، منهم ميثم التمار ورشيد الهجري وغيرهما، بل جزم في أسراره أنها صلوات الله عليها أفضل من مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وغيرهما من فضليات النساء.وذكر قدس سره عند كلام السجاد عليه السلام لها: - يا عمة أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة- أن هذا الكلام حجة على أن زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام كانت محدثة، أي: ملهمة، وأن علمها كان من العلوم اللدونية والآثار الباطنية.
وقال العلامة الفاضل السيد نور الدين الجزائري في كتابه الفارسي المسمى بالخصائص الزينبية ما ترجمته: عن بعض الكتب: أن زينب عليها السلام كان لها مجلس في بيتها أيام إقامة أبيها عليه السلام في الكوفة، وكانت تفسر القرآن للنساء، ففي بعض الأيام كانت تفسر (كهيعص ) إذ دخل أمير المؤمنين عليه السلام عليها فقال لها: يا نور عيني سمعتك تفسرين (كهيعص ) للنساء، فقالت: نعم، فقال عليه السلام: هذا رمز لمصيبة تصيبكم عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم شرح لها المصائب عليه السلام، فبكت بكاء عالياً صلوات الله عليها.
ومن ذلك:ما روي عن كتاب ثاقب المناقب لعماد الدين محمد بن علي الطوسي طاب ثراه، قال: عن زينب بنت علي عليه السلام قالت: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر، ثم اقبل على أمير المؤمنين عليه السلام فقال:هل عندكم طعام ؟ فقال:لم آكل منذ ثلاثة أيام، وما تركت في بيتنا طعام، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: سر بنا إلى فاطمة، فلما دخلا على فاطمة نظرا إليها وقد أخذها الضعف من الجوع وحولها الحسنان عليهما السلام، فقال رسول الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة فداك أبوك هل عندك شئ من الطعام ؟فاستحيت فاطمة أن تقول:لا، فقالت نعم، وقامت واستقبلت القبلة لتصلي ركعتين، فأحست بحسيس، فالتفتت وإذا بصحفة ملأى ثريدا ولحما، فأتت بها ووضعتها بين يدي ابيها صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعلي والحسن والحسين، ونظر علي عليه السلام إلى فاطمة متعجباً، وقال:يا بنت رسول الله أنى لك هذا ؟فقالت:هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال:الحمد لله الذي جعل في أهلي نظير زكريا ومريم إذ قال لها (أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )، وبينما هم مشغولون بالأكل وإذا بسائل بالباب يقول: السلام عليكم يا أهل البيت أطعموني مما تأكلون، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اخسأ اخسأ اخسأ، فقال علي عليه السلام:من هذا يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:هو إبليس لعنه الله، علم أن هذا من طعام الجنة أتانا بصورة سائل ليتناول من هذا الطعام، وبعد أن أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام وشبعوا ارتفعت الصحفة إلى السماء.
ومن ذلك:ما رواه الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي في بعض مجاميعه عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة الصغرى، عن أبيها الحسين عليه السلام وعمتها زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام: أن فاطمة عليها السلام قامت في محرابها في جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقال لها الحسين عليه السلام: ألا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: الجار ثم الدار.
ومن الأخبار المروية عنها صلوات الله عليها: ما روي عن نور الدين محمد بن المرتضى بإسناده عن أم كلثوم زينب بنت علي عليه السلام أنها قالت: كان آخر عهد أبي إلى أخوي عليهما السلام انه قال لهما: يا بني إذا أنا مت فغسلاني، ثم نشفاني بالبردة التي نشف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة، وحنطاني، وسجياني على سريري، ثم انظرا حتى إذا ارتفع لكما مقدم السرير فاحملا مؤخره، قالت: فخرجت أشيع جنازة أبي، حتى إذا كنا بظهر الكوفة وقدمنا بظهر الغري ركز القدم فوضعنا المؤخر، ثم برز الحسن مرتدياً بالبردة التي نشف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة وأمير المؤمنين عليهما السلام، ثم أخذ المعول فضرب ضربة فانشق القبر عن ضريح، فإذا هو بساجة مكتوب عليها سطران بالسريانية: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا قبر حفره نوح النبي لعلي وصي محمد قبل الطوفان بسبعمائة عام، قالت عليها السلام: فانشق القبر، فلا أدري أغاب سيدي في الأرض أم أسري به إلى السماء، إذ سمعت ناطقاً لنا بالتعزية وهو يقول: أحسن الله لكم العزاء في سيدكم وحجة الله على خلقه.
عصمة السيدة زينب (عليها السلام)
العصمة: هي لطف من الله تعالى بالمعصوم بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة، ولا إلى فعل المعصية، مع قدرته عليهما.وهذا اللطف الإلهي يفيضه الله سبحانه على من استعد له، وهيأ نفسه لحصوله، قال السيد مرتضى (رحمه الله): اعلم أنّ العصمة هي اللطف الذي يفعله الله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح، فيقال على هذا: إنّ الله تعالى عصمه، بأن فعل له ما اختار عنده العدول عن القبيح، ويقال: إنّ العبد معصوم لأنه اختار عند هذا الداعي الذي فعل له الامتناع من القبيح.والعصمة واجبة للأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لوقوعهم في طريق التبليغ، فلو لم يكونوا معصومين لجاز أن يقع منهم الخطأ والسهو، بل والمعصية، وبذلك يسقط مقامهم بين الناس، فيتعذر عليهم التبليغ والإرشاد، فيفشلوا في مهمتهم، وتنتفي الغاية من ارسالهم وتنصيبهم.
وشيء آخر يحدث: هو احتياجهم إلى من يرشدهم ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، فيكون الأمر حينئذ مأموراً، والناهي منهياً، وفيه ما فيه من المفاسد، وسدّ طريق الإصلاح.فوجب لهذا وغيره عصمة النبي والإمام من كلّ ذنب وخطأ.وهناك أشخاص غير واجبي العصمة، أي ليس من ضروريات الدين عصمتهم لأنهم لم يقعوا في طريق التبليغ، لكنهم نالوا هذه المنزلة الرفيعة من الله سبحانه بصحة ضمائرهم، وصدق نياتهم، واخلاصهم في عبادته سبحانه وتعالى، واتباعهم لأوامره ونواهيه، ودأبهم على طاعته حتى بلغوا أسمى درجات الفضل والكمال.
وتعرف هذه الملكة لهؤلاء بأمرين:
1 - شهادة المعصوم، فهي حجة بحقهم، لأنه لا يعطيها اعتباطاً تنزيها له عن الخطأ في القول والعمل.
2 - مرورهم بالأزمات العظيمة، والنكبات المذهلة، ومع ذلك لا يصدر منهم إلاّ الرضا والتسليم لأمره سبحانه، فإذا كان هذا حالهم في أيام البؤس والمحن، فهم أولى بالشكر في حال اليسر والرخاء. ويقطع علماؤنا (رضوان الله عليهم) أنّ العقيلة من أولئك النفر، فقد حصل لها الأمر الأول - شهادة المعصوم - بكلمة الإمام زين العابدين (ع): (عمّة أنت عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة)، فهي إشارة إلى هذه المنزلة.
قال العلامة الشيخ جعفر النقدي: يريد أنّ مادة علمها من سنخ ما منح به رجالات بيتها الرفيع، أفيض عليها إلهاماً لا بتخرج على أستاذ، وأخذ عن مشيخة، وإن كان الحصول على تلك القوة الربانية بسبب تهذيبات جدها وأبيها وأخويها، أو لمحض انتمائها إليهم، واتحادها معهم في الطينة، المكهربين لذاتها القدسية، فأزيحت عنها بذلك الموانع المادية، وبقي مقتضى اللطف الفياض وحده، وإذ كان لا يتطرقه البخل بتمام معانيه عادت العلة لافاضة العلم كله عليها بقدر استعدادها تامة، فأفيض عليها بأجمعه، إلا ما اختص به أئمة الدين (عليهم السلام)، من العلم المخصوص بمقامهم الأسمى، على أن هنالك مرتبة سامية لا ينالها إلاّ ذو حظ عظيم، وهي المرتبة الحاصلة من الرياضات الشرعية، والعبادات الجامعة لشرائط الحقيقة، لا محض الظاهر الموفى لمقام الصحة والأجزاء، فإن لها من الآثار الكشفية ما لا نهاية لأمدها، وفي الحديث (من أخلص لله تعالى أربعين صباحاً انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)، ولاشك أن زينب الطاهرة قد أخصلت لله كل عمرها، فماذا تحسب أن يكون المنفجر من قلبها على لسانها من ينابيع الحكمة.
وما أحلى كلمة قالها علي جلال في كتاب (الحسين): من كان النبي (ص) معلمه، ومن كان أبوه علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة الزهراء ناشئاً في أحضان جدّه، وأصدقاء أبيه، سادات الأمة، وقدوة الأئمة، فلاشك أن يغرّ العلم غراً كما قال ابن عمر، وما صدر عنها في مأساة الطف أكبر شاهد على ما بيناه في الأمر الثاني - التسليم لأمره سبحانه - من الرضا بمرّ القضاء، فهي تقول في عصر عاشوراء، وقد وقفت على أخيها الحسين (عليه السلام)، وهو مقطع بالسيوف: (اللهم تقبّل منا هذا القليل من القربان). وتقول ليزيد: الحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبّان الجنان.
المصدر: كتب مختلفة