ما عاد خفياً ما يجري بين الحليفين الكبيرين في الائتلاف العراقي الموحد من إبراز الاختلافات بينهما، فمن بعد قانون المحافظات الذي شهد وقت اقراره الكثير من ضغط حزب الدعوة مع حلفائه (كتلة الشهرستاني العطية وتنظيم العراق) لكي يمرر القانون مع جدية مخالفته للدستور، ثم ما برز في مسألة مجالس الاسناد التي تبناها رئيس الوزراء نوري المالكي وحزبه حزب الدعوة والتي عارضه فيها المجلس الأعلى بشدة، ثم ما لا حظناه في الاختلاف الشديد في محاور أساسية في قانون الانتخابات ما بين الطرفين، ومن بعد طرح المالكي بعدم اقتناعه بالنظام السياسي المؤسس في الدستور ومطالبته لتغيير الدستور ليتبنى حكومة مركزية قوية، وهو ما سارع المجلس الأعلى لرفضه تماماً في وقته، عاد الخلاف يبرز في الموقف المعلن في شأن الموازنة العامة، وما يبدو إنه مجرد تصريحات إنتخابية بين السيد المالكي وبين سماحة الشيخ الصغير في شأن الموازنة العامة لعام 2009 يخفي وراءه في الواقع ما هو أكبر من قضية الانتخابات، خاصة وأن الموازنة ستنالها مجالس المحافظات التي ستنتخب ولا يعلم ماهيتها أحد بعد، ولهذا يجب أن لا نكتفي بما يطفو على السطح لقراءة ما يجري في الكواليس، والسؤال الذي يجب أن ننتبه لجوابه الملح هو هل أن الخلاف الظاهر هو شأن انتخابي تشهده في العادة أية انتخابات، ويجري في العادة حتى بين أطراف الحزب الواحد وينتهي من بعدها، أم ان ما طفا إلى السطح هو تعبير عن خلاف أعمق يمتد إلى المنهج الذي يعتمده الطرفان؟
في البداية لا بد من تقرير حقيقة أساسية هي إن المجلس الأعلى قدم حماية مستمرة وشديدة لحكومة المالكي طوال هذه الفترة لا سيما في الفترات الصعبة والأزمات الحرجة التي تعرضت لها حكومة المالكي، رغم وعود ملحة من قبل الآخرين بتقديم منصب رئاسة الوزراء للمجلس الأعلى وهو ما رفض دوماً من قبل المجلس الأعلى، ولا زال المجلس الأعلى على موقفه هذا لحد هذه اللحظة، بالرغم من إن تصرفات المالكي مع المجلس الأعلى لم تعبر عن شكر لهذه المواقف المشهودة إن لم نقل بأنه اعتمد مبدأ التهميش المستمر لدور المجلس الأعلى في الحكومة وفي الائتلاف وفي المحافظات، وهناك قائمة طويلة في هذا المجال لست في صدد تبيان أرقامها ، ولكن لو وجدت النقاش موضوعيا سأذكر لاحقاً للتحدث عن ذلك، وقد حاول المالكي أن يذهب مع المجلس الأعلى للتحالف الشامل وصولا للاندماج الكامل، ولكن المجلس الأعلى كان متريثاً في قبول ذلك بسبب تجربته التاريخية مع حزب الدعوة تحديداً، ورأى التريث في إنجاز مثل هذا التحالف الضروري ليجعل الأعمال المشتركة مختبراً لاكتشاف مصداقية هذه التجربة، ليتقدم هذا الموضوع مع تقدم مصاديق جديته، لأن مثل هذه الأمور إن لم تبن على أساس متكامل من الثقة لا يمكن لها أن تكون إلا مغامرة غير محسوبة العواقب للإنجرار وراء شعارات.
ولا أخفي قلقي من بروز خلافات الطرفين بشكل أكبر خلال الفترة القليلة القادمة، لأنهما يشتركان في ساحة واحدة وجمهورهما واقناعه هي مهمة الطرفين في تنافسهما الانتخابي، ولهذا سنجد الكثير من الكشف لخفايا الأيام والسنين المنصرمة، وحتى لا نخدع بما ستجرنا إليه التفاصيل، وما يمكن لحذاقة المتحدثين أن تخفي وراءها ما تخفي من ضربات تحت الحزام!! فإن علينا أن نرقب المعايير التي تحكمت في هذه الخلافات، فمن الملاحظ وبسهولة إن الأمر يحكي خلافا منهجيا أكثر مما هو خلاف تكتيكي تحكمه فترة الانتخابات، فما يتم الاختلاف فيه وما يبدو لي واضحا هو وجود عقليتين مختلفتين للتعامل مع ملفات العملية السياسية، ففيما يتركز الخطاب السياسي والتعبوي للمجلس الأعلى على المزيد من الصلاحيات والسلطات والحقوق للمحافظات، فإن من الواضح إن حزب الدعوة يركز خطابه ومنهجه العملي على الدولة المركزية القوية، وهذا هو جوهر ما تحدث عنه المالكي في مؤتمر الكوادر والنخب قبل شهر تقريباً، ووفق هذا فلا غرابة من أن يعمد المالكي لربط مجالس الاسناد العشائرية ببغداد ويحاول أن يقلص صلاحيات المحافظات عمليا من خلال خطط فرض القانون أو بتهديدها بفرض القانون والتي تعني من الناحية العملية سلب المحافظات سلطاتها ووضعها بيد بغداد عبر غرفة العمليات، ولا غرابة من أن يتشدد حزب الدعوة في الموقف من قانون المحافظات والذي بموجبه كان ضاغطا بشدة من أجل تقليص الصلاحيات الممنوحة دستوريا لها، وربط الجميع بمنظومة بغداد، وما يلوح اليوم في أزمة موازنة المحافظات هو تعبير آخر عن اختلاف العقليتين، وبالرغم من حديث المالكي من إن الموازنة ستوزع على المحافظات وفق النسب السكانية إلا إن مفهومه عن ذلك وفق مصدر نيابي مجلسي يختلف تماماً عن مفهوم المجلسيين عن عملية التوزيع، فالمالكي وزع النسب على الوزارات البغدادية التي ستتحكم بالمحافظات، لا على المحافظات التي ينص الدستور على ان تكون بصلاحيات واسعة ومنها حقها في الموازنة بشكل مباشر، وما يثير حفيظة المجلسيين أكثر أن الوعود التي اعطيت لهم طوال السنين الثلاث الماضية من المالكي كلها لم تجد مالا للتنفيذ، وما يثيرهم أكثر إن موزنة المحافظات رغم قلتها فإن الحصيلة الكلية تبرز إن المحافظات عملت لخدمة مواطنيها أكثر مما عملت الوزارات.
ويرتكز حديث المجلسيون على إن هذا الخلاف محسوم دستوريا، وهو ما حاول المالكي أن يتفاداه بطريقة كشف فيها عمق الخلاف حينما تحدث عن ضرورة تغيير الدستور لفسح المجال أمام الدولة المركزية القوية!، وهو تفادي في المنطقة المحظورة ولاشك لأن الدستور حاكم على كل الدولة ومؤسساتها، ولا حق للمالكي في تفاديه طالما كان الدستور ناجزا أما إذا تم التغيير عند ذاك فإن من حق الجميع أن يتحدثوا عن الأفق الجديد في الدستور، وهو في تصوري امتحان لمصداقية وجدية توجه قائمة المالكي الانتخابية في الالتزام بدولة القانون كما سمت نفسها بذلك.
وما يخشاه المجلسيون هو أن الدولة المركزية مع أنها تغمط حق المحافظات وتتلاعب بها بشكل كبير كما أثبتت كل الفترات المنصرمة سواء في هذا العهد أو في العهود السابقة، فأن أي أمان للشعب من الانقلاب العسكري سيكون ضرب من الخيال، فما قد تفوته هذه الأيام، لا يضمن عصمة ما سياتي بعد ذلك، ولو قدر أن امتلكنا حكومة يمكن ضمان نزاهتها اليوم، فمن يدري ما سيحصل غدا؟ ولعبة الانتخابات لا تبقي حالا عند موضعه، ولهذا بقي الاصرار المجلسي على الفيدرالية كخيار استراتيجي لا مندوحة عنه لتأمين المستقبل من مخاطر المستقبل، فيما يرى المالكي بأن الدولة القوية قادرة على تخليص البلد من شر الانقلابات، ولا قوة للدولة من دون صلاحيات كبرى للتحكم بواقع المحافظات وضبط نسق حركتها.
وما بين هذا وذاك تبقى لعبة الموازنة تثير غموض العديدين، لاسيما وأن وزير المالية من المجلس الأعلى فكيف يعترض المجلس على موازنة يضعها وزير منه؟ ولكن الواقع يحكي قصة أخرى، فوزير المالية لا ينفذ إلا سياسة مجلس الوزراء والذي يتحكم فيه السيد رئيس الوزراء، وهو مجبر على ترتيب أرقام موازنته بناء على توجيهات رئاسة الوزراء له، فهو وزير في هذا منظومة رئيس الوزراء، وحتى لو عارض فهو واحد من وزراء متعددين، وهو بالنتيجة مجبر على وضع أرقامه بناء على مخطط رئيس الوزراء، وهذه الأرقام تتحكم بها عوامل عدة: سياسة رئيس الوزراء وتوجهات اللجنة الاقتصادية وطبيعة ما جناه العراق من مال وادخره، ولئن كان حال رئيس الوزراء معلوماً، فإن اللجنة الاقتصادية التي يرؤسها رئيس الوزراء يتحكم بها وزير النفط والتخطيط فضلا عن وزير المالية، مع تأثير نسبي للوزارات المعنية بتوفير العائدات المالية للعراق كالتجارة وغيرها، ومعلوم جدا إن وزير التخطيط هو صاحب الكلمة الكبرى في مجال حاجيات المحافظات، فيما يحتل وزير النفط الدور الأعظم في طبيعة ما يجنيه العراق نتيجة تحكمه بالسياسة النفطية ومدخرات العراق غالبيتها تأتي من هذه السياسة، مما يبقي دور وزير المالية بالدرجة الثانية لأن الرجل يحكم أموره من بعد حلقات خارجة عن إرادته.
وعليه فإن ما يبدو إنه خلاف تكتيكي بين التيارين يتضح تماما من بعد كل ذلك أنه خلاف منهجي، وهو مرشح دائما لفرز مفردات خلافية أخرى، وهذا الخلاف نتمنى أن ينير وعي الأمة في عملية إدارة الدولة، ويصرها في كيفية تأمين معايشها ومصالحها.