<H1>مناظرة الشيخ الصدوق (1) مع الملك ركن الدولة بن بابويه لقد ذكر في المجلس الذي جرى بين الشيخ الامام أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي مع الملك ركن الدولة أبي علي الحسين بن بابويه الديلمي ، قيل : إنه وُصِف للملك المذكور حال أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، وما يقعده في المجالس وما عليه من الاثار وما يجيب عنه من المسائل والاخبار ورجوع الامامية إليه وإلى أقواله في البلدان والامصار.
فأحبَّ لقاءه ومسألته فقدَّم إلى حاجبه البرمكي إحضاره ، فركب الحاجب إليه وأحضره إلى مجلس السلطان ، فلما دخل عليه قرَّبه وأدناه وأكرمه ورفع مجلسه ، فلما استقر به المجلس.
قال له السلطان : أيها الشيخ الفقيه العالم ، اختلف الحاضرون في القوم الذين طعنوا فيهم الشيعة ، فقال بعضهم : يجب الطعن ، وقال بعضهم : لا يجب ولا يجوز ، فما عندك في هذا ؟
فقال الشيخ (ره) : أيها الملك ، إن الله تعالى لم يقبل من عباده الاقرار بتوحيده حتى ينفوا كل إله سواه ، وكل صنم عُبدَ من دون الله ، ألم تر أنا أُمرنا أن نقول : ( لا إله إلا الله ) ، فلا إله نفي كلّ إله عُبدَ من دونه.
وقوله : إلاّ ، إثبات الله عز وجل ، وكذلك لم يقبل الاقرار بنبوة محمد نبينا ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حتى ينفوا كل متنبئ كان في وقته ، مثل مسيلمة الكذاب ، وسجاح بنت الاسود العنسي وأشباههم ، وهكذا لا يقبل القول بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ إلاّ بعد نفي كل ضد نُصب للامامة دونه.
قال الملك : هذا هو الحق ، وأخبرني أيها الشيخ بشيء جلي واضح من أمر مَنْ انتصب للامامة دونه ؟
قال الشيخ : أيها الملك ، اجتمعت الامة على نقل خبر سورة براءة (2) ، وفيه خروج أبي بكر من الاسلام ، وفيه نزول ولاية أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ من السماء وعزل أبي بكر ، وفيه أنه لم يكن من النبيين.
قال الملك : وكيف ذلك ؟
فقال الشيخ ـ رحمه الله ـ : روى جميع أهل النقل منا ومن مخالفينا أنه لما نزلت سورة براءة على رسوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ دعا أبا بكر فقال : يا أبا بكر خذ هذه السورة فأدِّها عني بالموسم بمكة ، فأخذها أبو بكر وسار ، فلما بلغ بعض الطريق هبط جبرئيل ـ عليه السلام ـ فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ، فدعا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وأمره أن يلحق أبا بكر ويأخذ منه سورة براءة ويؤديها عن الله تعالى أيام الموسم بمكة ، فلحقه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وأخذ منه سورة براءة وأداها عن الله تعالى.
حيث أنهم أخّروا من قدّمه الله تعالى وقدّموا من أخّره الله استهانة االله سبحانه ، وقد صح أن أبا بكر ليس من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لقول جبرئيل ـ عليه السلام ـ : لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ، فإذا لم يكن من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم يكن تابعاً له ، قـال الله تعالـى : ( فمـن تبعني فإنَّهُ مِني ) (3) ، وإن لـم يكـن متبعـاً للنبـي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم يكن محباً لله عز وجل لقوله تعالى ( قل إن كُنتُم تُحبُون الله فاتَّبعوني يُحببكُم اللهُ ويغفر لكم ذُنُوبكم ) (4) ، وإذا لم يكن محباً كان مبغضاً وبغض النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كفر.
وقد صح بنفس هذا الخبر أن علياً ـ عليه السلام ـ من النبي ، هذا مع ما رواه المخالف في تفسير قوله : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهدٌ منه ) (5) أن الذي على بيِّنة من ربه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ والشاهـد الذي يتلوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ.
وما رواه عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنه قال : علي مني وأنا من علي(6) ، وما رواه عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : لينتهين أو لابعثن عليه رجلاً نفسه نفسي وطاعته كطاعتي ومعصيته كمعصيتي (7).
ومما روي عن جبرئيل ـ عليه السلام ـ في غزوة أُحد أنه نزل على النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فنظر إلى علي ـ عليه السلام ـ وجهاده بين يدي رسول الله ، فقال جبرئيل : هذه المواساة ، فقال : يا جبرئيل لانه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما (
.
فكيف يصلح أيها الملك للامامة رجل لم يأتمنه الله تعالى على تبليغ آيات من كتابه أن يؤديها إلى الناس أيام الموسم ، فكيف يجوز أن يكون مؤتمناً على أن يؤدي جميع دين الله عز وجل بعد النبي ويكون والياً عليهم وعزله الله عز وجل وولّى علياً ـ عليه السلام ـ ؟
وكيف لا يكون عليٌ مظلوماً وقد أخذوا ولايته وقد نزل بها جبرئيل من السماء ؟
فقال الملك : هذا بيِّن واضح.
وكان رجل واقفاً على رأس الملك يقال له : ( أبو القاسم ) فاستأذنه في كلامه ، فأذن له.
فقال : أيها الشيخ كيف يجوز أن تجتمع هذه الامة على خطأ مع قول رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : لا تجتمع أُمتي على ضلالة (9) ؟
فقال الشيخ : إن صح هذا الحديث فيجب أن تعرفه الامة ، ومعناها أن الامة في اللغة هي الجماعة وأقل الجماعة رجل وامرأة ، وقد قال الله تعالـى : ( إن إبراهيم كان أُمةً قانِتاً) (10) ، فسمـى واحـداً أُمـةً ، قـال النبـي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : رحم الله قساً يحشر يوم القيامة أُمة واحدة (11) ، فما ينكر أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، إن كان قال هذا الحديث ـ عنى به علياً ـ عليه السلام ـ ومن تبعه.
فقال : عنى به الاعظم ومن هو كان أكثر عدداً.
فقال الشيخ (ره) : وجدنا الكثرة في كتاب الله عز وجل مذمومة والقلة مرحومة محمودة في قوله عز وجل : ( لا خير في كثير من نجواهم ) (12) ، ( بل أكثرهم لا يعقلون ) (13) ، ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) (14) ، ( بل أكثرهم لا يؤمنون ) (15) ، ( ولكن أكثرهم لا يشكرون ) (16) ، ( ولكن أكثرهم يجهلون ) (17) ، ( وأن أكثركم فاسقون ) (18) ، ( وما وجدنا لاكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) (19) ، وقال الله تعالى في مدح القلة : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) (20) ، ( وقليل من عبادي الشكور ) (21) ، ( وما آمن معه إلا قليل ) (22). وذكر الله في قول موسى : ( ومن قوم موسى أُمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) (23).
قال الملك : كيف يجوز الارتداد على العدد الكثير مع قرب العهد بموت صاحب الشريعة ؟
فقال الشيخ (ره) : وكيف لا يجوز الارتداد عليهم مع قوله تعالى : ( وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قَبلِه الرُسُل ، أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ، ومَنْ ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً ، وسيجزي الله الشاكرين ) (24) ، وليس ارتدادهم ذلك بأعجب من ارتداد بني إسرائيل حين مضى موسى ـ عليه السلام ـ لميقات ربه واستخلف عليهم أخاه هارون وقال : ( اخلُفني في قومي وأصلِح ولا تتبع سبَيل المُفسدين ) (25) ووعد قومه بأنه يعود إليهم بعد ثلاثين ليلة وأتمها الله بعشر ، فتمَّ ميقات ربه أربعين ليلة ، فلم يصبر قومه إلى أن خرج فيهم السامري وصنع لهم من حليهم عجلاً جسداً له خوار ، فقال لهم : هذا إلهكم وإله موسى ، واستضعفوا هارون خليفة موسى وأطاعوا السامري في عبادة العجل ، ولم يحفظوا في هارون وصية موسى به ولا خلافته عليهم ، ( ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسِفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تُشمِت بيَ الاعداءَ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ) (26).
هذا مما قص الله تعالى من تمام هذه القصة ، وإذا جاز على بني إسرائيل ـ وهم من أُمة أُولي العزم ـ أن يرتدوا بغيبة موسى ـ عليه السلام ـ بزيادة عشر ليال حتى خالفوا وصيته وأطاعوا السامري في عبادة العجل ، فكيف لا يجوز على هذه الامة بعد موت النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن تخالف وصيه وخليفته وخير الخلق بعده وتطيع سامري هذه الامة ؟
وإنما علي ـ عليه السلام ـ بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنه لا نبي بعد محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لما روي عن جميع أهل النقل.
فقال الملك للشيخ الفاضل : ما سمعت في المعنى كلاماً أحسن من هذا ولا أبيّن.
فقال الشيخ (ره) : أيها الملك زعم القائلون بإمامة سامري هذه الامة أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ مضى ولم يستخلف واستخلفوا رجلاً وأقاموه ، فإن كان ما فعله النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على زعمهم من ترك الاستخلاف حقاً فالذي أثبته القوم من الاستخلاف باطل ، وإن كان الذي أثبته الامة من الاستخلاف صواباً فالذي فعله النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ خطأ ، فمن لم يحكم بالخطأ عليه يحكم به على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعليهم.
فقال الملك : بل عليهم.
قال الشيخ (ره) : فكيف يجوز أن يخرج النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من الدنيا ولا يوصي بأمر الامة الى أحد ، ونحن لا نرضى من عقل أكار (27) في قرية إذا مات وخلف مسحاة وفأساً لا يوصي به إلى أحد من بعده (28) ؟
فقال الملك : القول كما يقوله المخالفون.
فقال الشيخ : وهنا حكاية أخرى ، وهي أنهم زعموا أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم يستخلف فخالفوه باستخلافهم من أقاموه وخـالف النبي من أقامه بالامر ، فلما حضرته الوفاة لم يعتد بالنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في ترك الاستخلاف على رغمه واستخلف بعده الثاني ، والثاني لم يعتدوا به ولا بالنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حتى جعل الامر شورى في قوم معدودين ، وأي بيان أوضح من هذا ؟
فقال الملك : هذا بيّن واضح ، فأيّ شبهة وَلّدوها في إمامة هذا الرجل وإقامته ؟
فقال الشيخ : إنهم زعموا أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال : قدمه للصلاة ، وهذا خير لا يضرّ ، وقد اختلفوا فيه ، فمنهم من روى أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال لعائشة : أمرت أباك أن يصلي بالناس ، وأن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لما عرف تقدم أبي بكر خرج متكئاً على علي ـ عليه السلام ـ وعلى الفضل بن العباس حتى دخل المسجد ، فنحى أبا بكر وصلّى بالناس قاعداً وأبو بكر خلفه والناس كانت خلف أبي بكر (29).
ومنهم من روى أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أمر حفصة أن تأمر أباها أن يصلي بالناس (30) ، وهذا الخبر لا يصح لان المهاجرين والانصار لم يحتجوا به ولا ذكروه يوم السقيفة ، ولو صحَّ هذا الخبر لما وجبت إمامة أبي بكر ، ولو وجبت الامامة بالتقديم إلى الصلاة لوجب أن يكون عبد الرحمن بن عوف أولى بالامامة ، لانهم رووا عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنه صلّى خلفه ولم يختلفوا في ذلك (31) ، وكيف يلزمنا أيها الملك قبول خبر عائشة وحفصة بجرّهما النفع إلى أبيهما وإلى أنفسهما ، ولا يلزمهم قبول قول فاطمة ـ عليها السلام ـ وهي سيدة نساء العالمين فيما ادعته من أمر فدك (32) ، وأن أباها نحلها إياها (33) ، مع كون فدك في يدها سنين من حياته ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ مع شهادة علي والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ وشهادة أم أيمن لها (34) ؟ وكيف يصح هذا الخبر عندهم وقد رووا أن شهادة البنت لابيها غير جائزة (35) ؟
وقولهم : إن شهادة النساء لا تجوز في عشرة دراهم ولا أقل إذا لم يكن معهن رجل (36) ، ومع قولهم : إن شهادة النسأ على النصف من شهادة الرجال.
</H1>