النبأ العظيم
قال الإمام علي ( عليه السلام ) : ((من طابق سرّه علانيته ، ووافق فعله مقالته ، فهو الذي أدى الأمانة وتحققت عدالته)0
إحتوى القرآن على شرائع الإسلام و أصول دعوته.
لكن هذه الشرائع و الأصول لا تستغرق جزءا كبيرا منه، فإن الإسلام دين يسير الرسالة، محدود التكاليف، و إنما كثرت السور و استبحرت الآيات لكي يمكن عرض الحقائق الدينية في أسلوب عامر بالإقناع ، فياض بالأدلة.
نعم نستطيع حصر أحكام القرآن و زبدة عقائده و تعاليمه في بضع صفحات؛ و بضع صفحات ليست شيئا هينا، إنها تتسع لحشد كبير من المعارف الثمينة.
بيد ان الوحي الإلهي ليس مجموعة من العلوم رصت في كتاب ثم قدمت للناس. إن عماد هذا الوحي – بعد تقرير الحق الذي جاء به – هو كيف يغرس هذا الحق في النفوس، و كيف تفتح أقطارها له و كيف تبقى عليه و ان تعرضت للفتن، و كيف يبقى فيها و إن زاحمه الباطل و ضيق عليه الخناق بصنوف المحرجات.
ان وحدانية الله جل جلاله أم العقائد الإسلامية، و مبدأ التوحيد لا يحتاج في بيانه الى كراسات أو مجلدات، بل كلمة التوحيد تكتب في سطر و تنطق في لحظات، فهل كذلك الامر في إشراب القلوب حقيقة التوحيد؟ و تتبع مسالك الإنسان لنفي الشرك عنها، و إلزامها الصراط المستقيم، و سرد تاريخ الأمم الاولى، و كيف اجتالتها الشياطين عن الفطرة، فاتخذت من دون الله أوثانا؟...
ثم كيف لقيت المصير الأسود الذي يجب ان تتعظ به الأجيال الجديدة بعد بوار القرون السابقة؟...
الامر هنا يحتاج الى إفاضة و استطراد حتى يستطاع التغلب على طبيعة الإنسان المعاندة، و إغلاق كل منفذ يمكن ان تهرب منه.
و لذلك يقول الله عز و جل: " و لقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، و كان الإنسان أكثر شيء جدلا".
قد تجد في القرآن حقيقة مفردة ولكن هذه الحقيقة تظهر في ألف ثوب، ز تتوزع تحت عناوين شتى، كما تذوق السكر في عشرات من الطعوم و الفواكه و هذا التكرار مقصود، و ان لم تزد به الحقيقة العلمية في مفهومها.
ذلك ان الغرض ليس تقرير الحقيقة فقط، بل بناء الأفكار و المشاعر عليها، و التقاط آخر ما تختلقه اللجاجة من شبهات و تعلات، و الكر عليها بالحجج الدامغة حتى تبقى النفس و ليس أمامها مفر من الخضوع للحق و الاستكانة لله.
و عندي ان قدرا كبيرا من إعجاز القرآن الكريم يرجع الى هذا...
فما أظن امرءاً سليم الفكر و الضمير يتلوا القرآن او يستمع إليه ثم يزعم انه لم يتأثر به..
قد تقول: و لمَ يتأثر به؟ و الجواب ان ما من هاجس يعرض النفس الإنسانية من ناحية الحقائق الدينية الا و يعرض القرآن له بالهداية و سداد التوجيه...
ما أكثر ما يفر الإنسان من نفسه، و ما أكثر الذين يمضون في سبيل الحياة هائمين على وجوههم، ما تمسكهم بالدنيا الا ضرورات المادة فحسب..
ان القرآن بأسلوبه الفريد يرد الصواب الى أولئك جميعا و كأنه عرف ضائقة كل ذي ضيق، و زلة كل ذي زلل، ثم تكفل بإزاحتها كلها، كما يعرف الراعي أين تاهت خرافه، فهو يجمعها من هنا و هناك، لا يغيب عن بصره و لا عن عطفه واحد منها.
و ذلك سر التعميم في قوله تعالى: " و لقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل".
حتى الذين يكذبون بالقرآن و يرفضون الاعتراف بأنه من عند الله.
إنهم يقفون منه مثلما يقف الماجن أمام أب ثاكل، قد لا ينخلع من مجونه الغالب عليهن و لكنه يؤخذ فترة ما بصدق العاطفة الباكية.
او كما يقف الخلى امام خطيب يهدر بالصدق، و يحدث العميان عن اليقين الذي يرى و لا يرون.
انه قد يرجع مستهزئا، و لكنه يرجع بغير النفس التي جاء بها.
و المنكرون من هذا النوع لا يطعنون في التأثير النفساني للقرآن الكريم، كما ان العميان لا يطعنون في قيمة الأشعة.
و لذا يقول الله عز وجل: " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء و من يضلل الله فما له من هاد"سورة الزمر، الاية23.
و تصريف الأمثال للناس ترديدهم بين صنوف المعاني الرائعة...قال العلماء في شرح الآية: " و لقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل" رددنا و كررنا من كل معنى كالمثل في غرابته و حسنه، او سقنا لهم وجوه العبر ة و الأحكام و الوعد و الوعيد، و القصص و غير ذلك.
و المقصود ان القرآن يملك على الإنسان نفسه بالوسيلة الوحيدة التي تقهر تفوقه في الجدل، أي بتقديم الدليل المفحم لكل شبهة، و تسليط البرهان القاهر على كل حجة.
فالنكوص عن الإيمان بعد قراءة القرآن يكون كفرا عن تجاهل لا عن جهل. و من تقصير لا عن قصور...
و الجدل آفة نفسية و عقلية معا، و النشاط الذهني للمجادل يمده حراك نفسي خفي قلما يهدأ بسهولة.
و جماهير البشر لديها من أسباب الجدل ما يفوق الحصر، ذلك أنهم يرتبطون بما ألفوا أنفسهم عليه من أديان و آراء و مذاهب ارتباطا شديدا، و يصعب عليهم الإحساس بأنهم و آبائهم كانوا في ضلال – مثلا- فإذا جاءت رسالة عامة تمزق العشاوات عن العيون، و تكشف للناس ما لم يكونوا يعرفون، فلا تستغربن ما تلقى من الإنكار و التوقف، أو التكذيب و المعارضة.
و أسلوب القرآن في استلال الجفوة من النفس و إلقاء الصواب في الفكر، أوفى على الغاية في هذا المضمار.
ذلك انه لون حديثه للسامعين تلوينا يمزج بين إيقاظ العقل و الضمير معا، ثم تابع سوقه متابعة ان افلت المرء منها أولا لو يفلت آخرا.
كما يصاب الهدف حتما على دقة المرمى و موالاة التصويب.
و ذلك هو تصريف الأمثال للناس. إنه إحاطة الإنسان بسلسلة من المغريات المنوعة لا معدى له عن الركون الى إحداها.
او معالجة القلوب المقفلة بمفاتيح شتى، لا بد ان يستسلم القفل عند واحد منها.
و تراكيب القرآن – التي تنتهي حتما بهذه النتيجة- تستحق التأمل الطويل. ة لسنا هنا بصدد الكلام عن بلاغتها، بل بصدد البحث عن المعاني التي تألفت منها، فكان من اجتماعها هذا الأثر الساحر...
و هناك مثل من مئات الأمثلة في هذا الشأن، ترى فيه حديثا عن مظاهر الكون، ثم إيماءاً الى مشاهد يوم القيامة، ثم تحذيرا للإنسان من الغفلة، ثم دفعا قويا الى الطريق السوي، لا بد فيه من الجمع بين صلاح العقيدة، و سلامة الخلق، و حسن العبادة، و دقة المعاملة للناس أجمعين.
" كلا و القمر، و الليل إذا أدبر و الصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر. لمن شاء منكم ان يتقدم او يتأخر. كل نفس بما كسبت رهينة. الا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون. عن المجرمين. ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين. و لم نك نطعم المسكين. و كنا نخوض مع الخائضين. و كنا نكذب بيوم الدين. حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين" سورة المدثر، الآية 23-48.
إنني أقرأ هذه الآيات فأحس عملها القوي في أرجاء نفسي، غير أنني لا أدري سر هذا العمل القوي !
الكلمات و معانيها من جنس ما نعرف، أما آثارها فلسنا نعرف مأتاها، و إن تشبثت بأنفسنا إلى أبعد الحدود.
و الشيء قد يكون في إحدى حالاته مألوفا لا يثير انتباها، فإذا اظهر هذا الشيء نفسه في أوضاع أخرى اكتنفته معان شتى !!
ألا ترى الزخرفة في فن الرسم تتكون من وحدة معينة؟ لو رأيت صورتها مفردة ما لفتت نظرك، فإذا كررها الرسام بطرق مختلفة برزت معالم الجمال في أنواع من الزخارف تسحر الألباب.
ثم ان الفك الشيء قد يخفي ما فيه من أسرار، و يصرفك عن اكتشافها.
و كثيرا ما تتلو آيات القرآن مثلما تتصفح آلاف الوجوه في الطريق، ملامح تراها قد تكون دميمة، و قد تكون وسيمة، تمر أشكالها بالعين، فما تثبت على احدها الا قليلا و في ذهول.
لان المرء مشغول بشأنه الخاص عن دراسة القدرة العليا في نسج هذه العيون و غرس هذه الرؤوس، و صوغ تلك الشفاه، و إحكام ما تنفرج عنه من أسنان، و ما تؤدي إليه من أجهزة دوارة لا تقف لحظة..
إننا نقرا القرآن فيحجبنا إبتدا عن رؤيته إعجازه انه كلام من جنس ما نعرف. و حروف من جنس ما ننطق، فنمضي في القراءة دون حس كامل بالحقيقة الكبيرة.
الا ان طبيعة هذا القرآن لا تلبث ان تقهر برودة الإلف، و طول المعرفة، فإذا كتاب تتعرى أمامه النفوس، و تنسلخ من تكلفها و تصنعها، و تنزعج من ذهولها و ركودها، و تجد نفسها امام الله جل شانه يحيط بها و يناقشها و يعلمها و يؤدبها، فما تستطيع امام صوت الحق المستعلن العميق الا ان تخشع و تصيح.
و كما قهر القرآن نوازع الجدل في الإنسان و سكن لجاجته، تغلب على مشاعر الملل فيه، و أمده بنشاط لا ينفد.
و الجدل غير الملل، هذا تحرك ذهني قد يحرك الأوهام، و يحولها الى حقائق، و ذلك موات عاطفي قد يجمد المشاعر، فما تكاد تتأثر بأخطر الحقائق.
و كثير من الناس يصلون في حياتهم العادية الى هذه المنزلة من الركود العاطفي، فنجد لديهم برودا غريبا بإزاء المثيرات العاطفية، لا عن ثبات و جلادة، بل عن موت قلوبهم و شلل حواسهم... !!!
و نحن نعرف هذه الحالة في طباع الناس و نحاول علاجها بأنواع المثيرات التي لا تخطر ببال.
خذ مثلا عاطفة الحب الجنسي. إن هذه العاطفة مع ارتباطها بأعتى الغرائز الإنسانية لم تترك للون واحد من المنشطات المادية و الأدبية، بل تسابق الشعراء و المغنون و الملحنون و الموسيقيون لمداعبة النفس الإنسانية بألوان من الغناء و اللحن و العزف تفوق الحصر.
فمن لم تعجبه أغنية هاجته أخرى، و من استغلق فؤاده امام لحن انفتح امام لحن آخر، و من طال به الإلف فهذا اخترعت له فنون أخرى تثير الهامد من إحساسه، و هكذا.
و في اغلب الآفاق المادية و المعنوية يحسب لملال الإنسان و كلاله حساب دقيق، و تؤخذ الحطة له كي لا يقف بالمرء في بدابات الطريق.... !!!
و القرآن في تحدثه للنفس الإنسانية حارب هذا الملل، و أقصاه عنها إقصاءا، و عمل على تحديد حياتها بين الحين و الحين حتى أنه ليمكنها أن تستقبل في كل يوم ميلاداً جديداً: " و كذلك أنزلناه قرآنا عربيا و صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون او يحدث لهم ذكرا" سورة طه، الآية 113.
و إحداث الذكر هو تجديد معنويات الإنسان كلما صدئت على طول التعب و مس الذهول.
و أسلوب القرآن في هذا إجمال يربى على كل تقدير.
انه يخترق أسوار الغفلة و يصل الى صميم القلب، ثم يقفه راغباً او راهباً بإزاء ما يريد.
و قد توجد سورة بأكملها حافلة بهذه الإثارات المحركة لوعي الإنسان، المجددة لقواه و مشاعره كلما استرخت و فقرت.
و قد تقوم سورة أخرى على طراز من المعاني التوجيهية كالتشريعات و الأحكام لا صلة لها بانفعالات القلوب، و ذلك لا يغير من الحقيقة التي ذكرناها. فان شئون المعاملات في القرآن الكريم تستمد قداستها و صدق التأثر بها من مقررات العقيدة و التقوى التي غرستها سائر السور و الآيات..
و الشعور بالرهبة و الرهبة و الرقة يغمرك و أنت تسمع الى قصص الأولين و الآخرين تروى بلسان الحق، ثم يتبعها فيض من المواعظ و الحكم و المغازي و العبر تقشعر منه الجلود.
و اقرب الأمثلة لذلك سورة الأعراف و هود و الشعراء و القصص..الخ.
و الهدف من هذا السرد المتكرر، ليس بيان الحق فقط، بل – هو الى جانب ذلك- تعميق مجراه في القلوب تعميقاً ينفي ما طبع عليه الإنسان من جدل و ملل...
من كتاب: نظرات في القرآن الكريم للشيخ محمد الغزالي.