قال البرَاء بن عازب من حديث له في أمر الخلافة :
فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ، حتى دخلوا على العباس بن عبد المطلب في الليلة الثانية من وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله .
قال : فتكلم أبو بكر فحمد الله جل وعز وأثنى عليه ثم قال : إن الله بعث لكم محمداً نبياً ، وللمؤمنين ولياً ، فمنّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، وترك للناس أمرهم ليختاروا لانفسهم مصلحتهم متفقين لا مختلفين ، فاختاروني عليهم واليا ، ولامورهم راعيا ، فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وهناً ولا حيرة ولا جبنا ، وما توفيقي إلا بالله ، غير أني لا أنفك من طاعن يبلغني فيقول بخلاف قول العامة ، فيتخذكم لجأً فتكونوا حصنه المنيع ، وخطبه البديع ، فإمّا دخلتم مع فيما اجتمعوا عليه ، أو صرفتموهم عمَّا مالوا إليه ، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الامر نصيبا يكون لك ولعقبك من بعدك ، إذ كنت عم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وإن كان الناس أيضا قد رأوا مكانك ومكان صاحبك فعدلوا بهذا الامر عنكما .
فقال عمر(2) : إي والله ، واُخرى ، يا بني هاشم على رسلكم فإن رسول الله منا ومنكم ، ولم نأتكم لحاجة منا إليكم ولكن كرهنا أن يكون الطعنُ فيما اجتمع عليه المسلمون، فيتفاقم الخطب بكم فانظروا لانفسكم وللعامة .
فتكلم العباس فقال : إن الله ابتعث محمدا ـ صلّى عليه وآله وسلّم ـ كما وصفت نبيا وللمؤمنين وليا ، فإن كنت برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ طلبت هذا الامر فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم ، ما تُقدّمنا في أمرك ولا تشاورنا ولا تؤامرنا ، ولا نحب لك ذلك إذ كنا من المؤمنين وكنا لك من الكارهين !!
وأما قولك أن تجعل لي في هذا الامر نصيبا، فإن كان هذا الامر لك خاصة ، فأمسك عليك فلسنا محتاجين إليك ، وإن كان حق المؤمنين فليس لك أن تحكم في حقهم ، وإن كان حقنا فإنا لا نرضى منك ببعضه دون بعض ، وأما قولك يا عمر إن رسول الله منا ومنكم ، فإن رسول الله شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها فنحن أولى به منكم ؟!
وأما قولك إنا نخاف تفاقم الخطب بكم بهذا الّذي فعلتموه أوائل ذلك والله المستعان (3) فخرجوا من عنده وأنشأ العباس يقول(4) :
ما كنت أحسب هذا الامر منحرفا *** عن هاشم ثم منهم عن أبي حسـن
أليـس أول مــن صلّى لقبلتكم *** وأعلم الناس بالاثـار والســنـن
وأقرب الناس عـهدا بالنبي ومن *** جبريل عون له بالغسل والكـفـن
من فيه ما في جميـع الناس كلهم *** وليس في الناس ما فيه من الحـسن
مـن ذا الذي ردكم عـنه فنعرفه *** ها أن بيعتكم من أول الفـتـن (5)
____________
(1) هو: العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عم رسول الله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، يكنى أبا الفضل ، كان شريفاً مهيباً عاقلاً جميلاً ، صبيحاً حلو الشمائل ، وله عدة احاديث يرويها عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ووردت في حقه روايات تتضمن اصرار النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على اكرامه وعدم هضمه، أسلم قبل الهجرة ، وخرج يوم بدر مع المشركين مكرهاً واستأسر للمسلمين ثم فدى نفسه، كانت ولادته قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بثلاث سنين ، وتوفي سنة اثنين وثلاثين وهو ابن ثمان وثمانين سنة .
راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء ج 2 ص 78 ، تاريخ البخاري ج 7 ص 2، تهذيب الكمال ج 14 ص 225 ، تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 126 .
(2) فاعترض كلامه عمر وخرج الى مذهبه فى الخشونة والوعيد ، وإتيان الامر من أصعب جهاته . فقال : أي والله ، واخرى لم نأتكم حاجة اليكم ولكن كرهنا... (الخ) . هكذا في شرح النهج ج 1 ص 220 .
(3) الى هنا تجد هذه المناظرة في شرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 220 .
(4) ذكر هذه الابيات الجويني في فرائد السمطين ج 2 ص 82 ونسبها الى العباس بن عبد المطلب (رض).
وذكرها ايضا اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 126 ط دار صادر بيروت ، وج 2 ص 103 ط الغري النجف ، ونسبها الى عتبة ابن أبي لهب ، ولم يذكر البيت الخامس .
وذكرها الشيخ المفيد (ره) في كتابه الجمل ص 58 ونسبها الى عبدالله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب .
وذكرها ايضا ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 13 ص 232 ، ونسبها الى أبي سفيان بن حرب بن أمية .
(5) كتاب سليم بن قيس ص 76 منشورات دار الكتاب الاسلامية وط آخرى ص 27 بتحقيق السيد علاء الدين الموسوي .
كتاب سليم بن قيس كتابٌ مشهور معتمد عليه عند المحدثين والمؤرخين ، قال عنه ابن النديم في الفهرس ص 307 : أول كتاب ظهر للشعية كتاب سليم ، وذكر ذلك أيضاً في محاسن الرسائل في معرفة الاوائل ، وروى عن سليم غير واحد من أعلام العامة منهم : الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ، والجويني في فرائد السمطين ، والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة ، والسيد أبو شهاب الهمداني في مودة القربى وغيرهم .